لمحة من حياة ثائر

حسين شاب قوي البنية، متوسط القامة، بعينه الجاحظتين نظرة التحدي والشموخ، ومهجته

حمم متقدة، ضد هذا المغتصب العاتي القادم من الشمال عبر المتوسط ، ليستفحل بسطوته

على كامل بسيطة وطنه الجزائر.

كان مع إخوانه الثوار في ذرى جبال القل الشوامخ ، يتحملون كل شيء برد، جوع، حرمان من الأهل والدفء والأمان... شعارهم و محفزهم لا للاستسلام والعنا لوطأة هذا الغاشم، الذي تتزلزل القلوب و العقول لما اقترفه من جرائم عنف واستبداد و تدمير، و اغتصاب لحقوق الإنسان و ثروات البلاد.

في ليلة دهماء من ليالي الشتاء الباردة ، عقدوا العزم لتنفيذ عملية فدائية، فدلجوا في المسالك الوعرة والضيقة وسط الأحراش، وبين أشجار البلوط والفلين ، وهم ستة عشر فردا يتصدرهم قائدهم الباسل السي العربي، الذي رسم لهم الخطة بدقة حتى أنه اختار هذه الليلة بالذات لظلامها الحالك، حتى لا يكتشف أمرهم.

بعد قرابة ثلاثة ساعات من انطلاقهم وصلوا إلى الثكنة العسكرية، بدأ السي العربي يتقدمهم بخطوات وئيدة و باغت الجندي الفرنسي الذي يحرس خلف المبنى، وبضربة قوية ببندقيته أرداه صريعا، حمل سلاحه وأشار لأصحابه بالتقدم، ثم أومأ لحسين أن يأخذ مكانه حسب الخطة مع مجموعة من الثوار ليحاصروا المكان من الجهة اليسرى، فتم تطويق المكان من كلا الجانبين وتقدموا تدريجيا نحو باب الثكنة أين يوجد عسكريان يتجولان قرب الباب ذهابا وإيابا، فتمكنوا منهما دون إصدار صوت الرصاص، وتقدموا للداخل فحدثت مشادات قوية اختلط فيها صوت الرصاص بصوت التكبير من طرف الثوار، وبعد لحظات عاد السكون للمكان وخرج الثوار سالمين ومعهم الأسلحة.

هي فقط بضع خطوات على الطريق ، وسمعوا صوت أزيز مركبة عسكرية، هم مجموعة من العساكر كانوا بالقرب من المنطقة وانتقلوا للثكنة فور سماعهم لعيارات نارية، فقال السي العربي موجها كلامه لأحد الثوار: أنتم اذهبوا بالسلاح من هذا المسلك، ونحن نقوم بتمويههم وأشار للثوار الذين يذهبون معه وناداهم بأسمائهم وهم حسين وأربعة آخرين، فانحدروا بسرعة أسفل الطريق، وكان يساعدهم بذلك خبرتهم بالمشي في المنطقة بوعورتها وانزلاقاتها وامتلائها بالأحجار والعوسج، عندما سمعوا صوت المركبة قد وصل أمام الثكنة، قام الثوار بإطلاق رصاصتين في الهواء، حتى يلحقوا بهم وينقدوا البقية وما معهم من أسلحة، وهذا ما حصل حيث تبعهم كل العساكر، والإغلاس الذي يلف المكان ويحجب الرؤية، يسر لهم الابتعاد كثيرا عن الجنود الذين يجهلون المنطقة وشعروا بالرهبة من شدة انحدارها، ففضلو القهقرى وعد المجازفة بأرواحهم.

وبعدما بدأت خيوط الليل بالتلاشي لينبلج الفجر، وجد الثوار الستة أنفسهم بمنطقة مكشوفة خالية من الأشجار العالية، توجد بها فقط بعض شجيرات الدرو والريحان القصيرة، ليفاجئهم أيضا سماع دوي طائرة يقترب ليصل فوقهم، ثم دمدم قربهم انفجار قوي ومرعب، فصاح السي العربي وهو منبطح على الأرض: احذروا إنها قنبلة غازية ابقوا منبطحين وازحفوا على بطونكم حتى لا تستنشقوا الغازات السامة فالغاز لا ينخفض للأسفل قرب الأرض، لم يسمعوا إليه فقد أرادوا الجري ليبتعدوا عن المكان الذي أصبح عببا من الدخان الغازي، ما إن انغمسوا فيها واستنشقوا سمومها، حتى سمت أرواحهم الزكية لأعالي السماء، أما السي العربي فمن شدة حرصه على حياتهم وخوفه عليهم فقد وقف وسط الخان وهو يصرخ: انبطحوا انبطحو...حتى استشهد هو أيضا، بقي فقط حسين يزحف على بطنه، وقد هاله منظر إخوانه وحز في نفسه بعمق، لف يده اليمنى على يسراه أسفل وجهه وأطلق العنان للتدحرج في المنحدر باتجاه الوادي حتى وصل إلى الأسفل وقف بصعوبة ونفسه يكاد ينقطع من جراء ما استنشقه من غاز، وانعرج يمينا نحو بؤرة صخرية على حافة الوادي، فاختبأ بها منكمشا ورجليه مرسبتين بالماء، وبقي هناك طول النهار، لأن المنطقة كانت تعج بالجنود الفرنسيين، وهو يقلب صفحات ذكرياته وجسمه يرتعد من البرد ولم يفارقه إحساس رهيب أن الموت جاث أمامه منتظر، حتى حل الليل فخرج حسين من الغار وقد أصابه الخوَرُ ورجلاه قد تجمدتا من برودة المياه ، وجسمه مليء بالكدمات والخدوش من جراء تدحرجه ، فسار بصعوبة فائقة محركه الوحيد قلبه النابض بالحياة وبالأمل في تحقيق النصر والحرية، وصل بعد عناء طويل إلى قمة الجبل، عند إخوانه المجاهدين، وكان في حالة مزرية للغاية، حتى أن حالته كان ميؤوس منها، لكن بفضل عناية الله ومساعدة الثوار له بترحيله لتونس، تحسنت حالته وعاد لعائلته التي ظنت أنه استشهد مع بقية الثوار بالقنبلة الغازية.